فصل: كتاب الحُدُود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب الحُدُود:

الحدود: جمع (حَد) وأصل الحد، المنع، وهو ما يحجز بين شيئين، فمنع اختلاطهما، ومنه أخذ معنى هذا.
وأما الحدود-اصطلاحا- فهي عقوبات مقدرة شرعاً لتمنع من الوقوع، في مثل ما ارتكب من المعاصي.
والحدود ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء في الجملة، ويقتضيها القياس الصحيح، فهي جزاء لما انتهكه العاصي من محارم الله تعالى.
حكمتها التشريعية:
لها حكم جليلة، ومعان سامية، وأهداف كريمة.
ولذا ينبغي إقامتها، لداعي التأديب والتطهير والمعالجة، لا لغرض التشفي والانتقام، لتحصل البركة والمصلحة، فهي نعمة من الله تعالى كبيرة على خلقه.
فهي للمحدود طهرة عن إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي.
وهي له ولغيره رادعة وزاجرة عن الوقوع في المعاصي.
وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور والفساد في الأرض.
فهي أمان وضمان للجمهور على دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم.
وبإقامتها يصلح الكون، وتعمر الأرض، ويسود الهدوء والسكون، وتتم النعمة بانقماع أهل الشر والفساد.
وبتركها-والعياذ بالله- ينتشر الشر ويكثر الفساد، فيحصل من الفضائح والقبائح، ما معه يكون بطن الأرض خيرا من ظهرها.
ولا شك أنها من حكمة الله تعالى ورحمته. والله عزيز حكيم.
على أن الشارع الرحيم حين شرع الحدود، سبقت رحمته فيها عقابه.
فعفا عن الصغار، وذاهبي العقول. والذين فعلوا لجهل بحقيقتها.
وصعب أيضا ثبوتها، فاشترط في الزنا أربعة رجال عدول، يشهدون بصريح وقوع الفاحشة، أو اعترافاً من الزاني بلا إكراه وبقاء منه على اعترافه حتى يقام عليه الحد.
وفي السرقة لا قطع إلا بالثبوت التام، وانتفاء للشبهة، وتمام لشروط القطع. إلى غير ذلك مما هو مذكور في بابه.
وأمر بدرء الحدود بالشبهات، كل هذا لتكون توبة العبد بينه وبين نفسه. والله غفور رحيم.
الحديث الأول:
عَنْ أنس بن مَالِك رَضي الله عَنْهُ قَالَ: قدِم نَاس مِنْ عكل-أوْ عَرينةَ- فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَأمَرَ لَهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاح، وأمَرهم أن يَشربُوا مِنْ أبوالها وَألبَانِهَا، فَانطَلَقوا.
فَلَما صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم واستا قوا النَّعَمَ.
فَجَاءَ الْخَبرُ في أوَّلِ النَّهَار، فبعَثَ في آثارِهِمْ، فَلما ارْتَفَعَ النَّهَارُ، جيءَ بِهِمْ فأمَرَ بِهِمْ فقطعت أيديهمْ وأرجلهم مِن خِلافِ وَسُمرَت أعينهم، وَتُرِكُوا في الحَرةِ يستسقُون فَلا يُسقَون.
قالَ أبو قلابَةَ: فَهؤلاءِ سَرَقُوا وَقتلُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ، وَحَارَبُوا الله وَرَسُولَهُ. أخرجه الجماعة.
اجتويت البِلاد: إذَا كَرِهتَهَا، وَإنْ كانَتْ مُوَافِقِةً. وَاستوْبَأتَهَا: إذَا لَم تُوَافِقْكَ.
الغريب:
عُكْل: بضم العين المهملة وسكون الكاف (قبيلة عدنا نية).
عُرَيْنة: بضم العين، وفتح الراء وسكون التحتية وفتح النون (قبيلة قحطا نية).
اجتووا المدينة: بالجيم الساكنة، وفتح التاء الفوقية، وفتح الواو أيضا، وضم الثانية. وهي فاعل: كرهوها لداء أصابهم في أجوافهم، يقال له: الجوى, فاشتق منه هذا الفعل.
بلقاح: بكسر اللام، بعدها قاف، وبعد الألف حاء. جمع (لقحة) وهي الناقة الحلوب.
النَّعم: بفتح النون والعين، واحد الأنعام، وهي الإبل.
آثارهم: بالمد، جمع أثر.
من خلاف: فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
سُمرت أعينهم: بضم السين وكسر الميم مبنى للمجهول، أي كُحلَتْ أعينهم بمسامير محماة بالنار.
الحَرَّة: بفتح الحاء والراء المشددة، هي الأرض التي تعلوها حجارة سود، وهي أرض خارج المدينة.
قلابة: بكسر القاف، هو عبد الله الجرمي.
المعنى الإجمالي:
قدم أناس إلى المدينة من البادية فأسلموا، وحين اختلف عليهم الجَو والمناخ، مرضوا، فضاقت أنفسهم بالمقام في المدينة.
فطيب الأديان والأبدان، عرف داءهم ودواءهم، فأمرهم أن يعودوا إلى ما ألفته أجسامهم، فيذهبوا إلى حيث الهواء الطلق، ويشربوا من ألبان الإبل وأبوا لها ففعلوا.
فلما صَحُّوا، طَغَوْا وَبَغَوْا، فقتلوا الراعي الذي مع الإبل بِسَمْلِ عينه، وارتدوا عن الإسلام، وهربوا بالإبل التي منحوا ألبانها.
فجاء خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم من جاء بهم.
فلما أقدموا على هذه القبائح العظيمة التي هي كما قال أبو قلابة:- السرقة والخيانة، والقتل، والكفر بالله تعالى، ومحاربة الله ورسوله بقطع الطريق، فكان نكالهم عظيما، وتعزيرهم بليغا، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف،
وفضخت أعينهم بالمسامير المحماة، وألقوا في الحرة يطلبون الماء فلا يسقون، فما زالوا في هذا العذاب حتى ماتوا.
فهكذا جزاء من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، وكفراً بأنعم اللَه، ليرتدع من خبثت نيته، فأراد أن يفعل مثل فعله.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا العقاب الذي صبه النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المفسدين، عقاب شديد ومثلة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وقد أمر أيضا بإحسان القتل والذبح.
فمن أجل هذا اختلف العلماء في حكم هؤلاء.
فبعضهم يرى أنه منسوخ بالنهي عن المثلة. وهؤلاء محتاجون إلى بيان تاريخ ناسخه، ولا بيان.
وبعضهم قال: هذا الحكم قبل أن تنزل الحدود.
وقال ابن سيرين: وفيه نظر، فإن قصتهم متأخرة.
وبعضهم قال: لم يسمل أعينهم، وإنما هم بها، وفيه نظر أيضا، فقد صح: أنه سمل وأنه سمر أعينهم.
وأجابوا بغيرِ ذلك، وكلها أجوبة، لا تستقيم لأصحابها.
والذي أرى: أن هذه العقوبة من باب التعزير.
والتعزير: هو التأديب، ومرجعه إلى اجتهاد الإمام ونظره، فقد يكون خفيفا، وقد يكون شديداً، فيؤدب بالعقاب والتأنيب، ويؤدب بالحبس، ويؤدب بما يراه من الجلد، ويؤدب بالقتل، ويؤدب بأخذ المال. وكلها لها سند من السنة الحكيمة.
وهؤلاء الأعراب عملوا أعمالا شنيعة، دلت على فساد قلوبهم وخُبْثِ طَوِيتهم.
فقد ارتدوا عن الإسلام، وجزاء المرتد القتل وقتلوا الراعي القائم بخدمتهم، وسملوا عينيه بغير حق. وسرقوا الإبل التي هي لعامة المسلمين، فهذا غلول وسرقة وخيانة. وحاربوا اللّه ورسوله، بقطع الطريق، والإفساد في الأرض، وكفروا نعمة الله تعالى- وهي العافية- بعد المرض، والسمن بعد الهزال. فكانوا بهذا مستحقين لعذاب يقابل فعلهم ليردع من لم يدخل الإيمان قلبه من الجفاة.
أما حديث النهى عن المثلة، والأمر بإحسان القتلة والذبحة ونحو ذلك، فهو باق في حال من لم يرتكب مثل هذه الجرائم العظام. والله الموفق وهو العليم الحكيم. وقد سمل هؤلاء عيني الراعي ورموه في الشمس حتى مات عطشاً ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك قصاصا، وقد مر بنا أن مذهب كثير من العلماء هو قتل الجافي بمثل ما قتل به لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وسيأتي حديث الصحيحين: «ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة».
2- في الحديث مشروعية التداوي وفعل الأسباب، وأن من العلاج، الرجوع إلى ما ألفته الأبدان، من المأكل، والمشرب والجو، والابتعاد عن الأراضي الموبوءة، والأهوية الرديئة.
3- طهارة أبوال الإبل، ووجهته أن التداوي بالنجس والمحرم لا يجوز.
ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ضربها للضرورة، فإنه لم يأمرهم بغسل أفواههم وأوانيهم. و(تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز) ويقاس على الإبل، سائر الحيوانات المباحة الأكل.
الحديث الثاني:
عن عُبَيْد الله بن عُتْبَةَ بن مَسْعُود عَنْ أبي هريرة وَزَيد بنِ خَالِد الْجهَني رَضي الله عَنْهُمَا: أنَّهُمَا قالا: إنَّ رجلا مِن الأعراب أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يا رسول الله، أنْشُدُكَ الله إلا قَضَيْتَ بَيْنَنا بكتاب الله.
فَقَالَ الْخصم الآخر-وَهُوَ أفْقَه مِنْهُ:- نَعَمْ، فَاقْض بَينَنَا بِكِتابِ الله وائذن لي. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «قُل».
فقال:إن ابني كانَ عَسِيفاً عَلى هذَا، فزَنَى بامْرَأتِهِ، وَإنَي أخبرت أنَّ عَلى ابني الرَّجم، فَافْتَدَيت ِمنْهُ بمائة شَاة وَوَلِيدَةٍ، فسألت أهل الْعِلمِ فَأخبرونِي أنَّ ما عَلى ابني جلدُ مِائةٍ وتَغْرِيبُ عَام، وأنَ عَلى امْرَأةِ هذَا الرجمُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَينكُمَا بِكِتَابِ الله، الولِيدَةُ وَالغنم ُ رٌَّد عَلَيكَ، وَعَلى ابنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْريبُ عَام، وَأنَّ عَلى امرأةِ هذا الرجْمُ، واغدُ يا أنيس-لِرَجُل من أسْلَم- إلَى امْرَأةِ هذَا، فَإنِ اعْترفَتْ فارْجُمهَا»
فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْترَفَت.
فَأمَرَ بِهَا رَسولُ اللَه صلى الله عليه وسلم فرجِمَتْ.
العَسِيفُ: الأجِيرُ.
الغريب:
أنشدك اللّه: بفتح الهمزة وسكون النون، وضم الشين والدال، أي أسألك بالله.
عسيفا: بفتح العين وكسر السين المهملة، وهو الأجر. مشتق من العسف، وهو الجور.
أنيس: بضم الهمزة وفتح النون، آخره سين مهملة، مصغر. وهو ابن الضحاك الأسلمي.
ما يستفاد من الحديث:
1- جفاء الأعراب، لبعدهم عن العلم والأحكام والآداب، حيث ناشد من لا ينطق عن الهوى أن لا يحكم إلا بكتاب الله تعالى.
2- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم يعنفه على سوء أدبه معه.
3- أن حدَّ الزاني المحصن، الرجم بالحجارة حتى يموت.
والمحصن: هو من جامع في نكاح صحيح، وهو حر مكلف.
4- أن حد الزاني الذي لم يحصن، مائة جلدة، وتغريب عام.
5- أنه لا يجوز أخذ العِوَض لتعطيل الحدود، وإن أخذت فهو من أكل الأموال بالباطل.
6- أن من أقدم على محرم، جهلا أو نسيانا، لا يؤدب. بل يعلَّم. فهذا افتدى الحدَّ عن ابنه بمائة شاة ووليدة، ظانًّا إباحته وفائدته. فلم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلمه بالحكم، وردَ عليه شياهه ووليدته.
7- وفى الحديث، قاعدة فرعية عامهَ وهى: أن من فعل شيئا لظنه وجود سببه، فتبين عدم وجود السبب، فإن فله لاغ لا يُعتد به، ويرجع بما ترتب على ظنه الذي لم يتحقق.
8- قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الإذن بالتصرف مقيد بالعقود الصحيحة. قال ابن دقيق العيد: فما أخذ بالمعاوضة الفاسدة يجب رده ولا يملك.
9- أنه يجوز التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها.
10- أن الحدود مرجعها الإمام الأعظم أو نائبه، ولا يجوز لأحد استيفاؤها غيرهم.
11- استدل بالحديث أنه يكفى لثبوت الحد وإقامته، الاعتراف مرة واحدة، ويأتي الخلاف في ذلك، إن شاء إن شاء الله تعالى.
12- قال (ابن القيم) في حكمة جلد الزاني: (وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء الشهوة يعم البدن).
13- والحكمة في رجم المحصن وجلد غير المحصن، أن الأول قد تمت عليه النعمة بالزوجة، فإقدامه، على الزنا يُعَدُّ دليلا على أن الشر متأصل في نفسه، وأن علاجه عن تركه صعب، وأنه ليس له عذر في الإقدام عليه.
وأما غير المحصن، فلعل داعي الشهوة غلبه على ذلك، فخفف عنه الحد، مراعاة لحاله وعذره.
14- القسم لتأييد صحة المسائل المهمة.
وقد أمر الله تعالى نبيه في كتابه أن يقسم ثلاث مرات على أن البعث حق.
15- فيه دليل على صحة استفتاء أهل العلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفيما بعده، وعلى جواز سؤال المفضول مع وجود من هو أفضل منه.
16- في الحدث، حُسْنُ الأدب مع أهل الفضل والعلم والكبار، وأن ذلك من الفقه.
الحديث الثالث:
عَنْ عبيد الله بن عَبْد الله بنِ عتبة بْنِ مسْعُودٍ عن أبي هريرة وَزَيِد ابن خالد الْجُهَنِي رَضِي الله عَنهمَا قَالا: سُئلَ النبُّي صلى الله عليه وسلم عَنِ الأمة إذَا زَنتْ وَلم تحصن؟.
قالَ: «إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم ولو بضفير».
قال ابن شهاب: (ولا أدري، أبعد الثالثة أو الرابعة) والضفير الحبل.
المعنى الإجمالي:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الأمة إذا زنت ولم تحصن، بحيث لم توطأ في نكاح.
فأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عليها الجلد، وجلدها نصف ما على الحرة من الحد، فيكون خمسين جلدة.
ثم إذا زنت ثانية، تُجْلَدُ خمسين جلدة أيضا لعلها ترتدع عن الفاحشة.
فإذا زنت الثالثة ولم يردعها الحد ولم تتب إلى الله تعالى وتخشى الفضيحة حينئذ، فاجلدوها الحد وبيعوها، ولو بأقل ثمن وهو الحبل الرخيص، لأنه لا خير في بقائها، وليس في استقامتها رجاء قريب وبعدها أولى من قربها، لئلا تكون سبب شر في البيت الذي تقيم فيه.
ما يستفاد من الحديث:
1- حد الأمة إذا زنت ولم تحصن، الجلد، وهو نصف ما على الحرة.
والحرة حدها مائة جلدة وتغريب عام، فيكون حدُّ الأمة خمسين جلدة ولا تغرب، لأن تغريبها يضر بسيدها، وربما أغراها بمعاودة الفاحشة.
2- أنه إذا تكرر منها الزنى وحدتْ ولم يردعها الجلد فَلْتُبَع ولو بأرخص ثمن، لأنه لا خِير في بقائها، ولا فائدة في تأديبها.
3- أن الزنا عيب في الرقيق، فإذا لم يعلم به المشترى فله الخيار في رده.
4- أن للسيد إقامة الحد في الجلد خاصة على رقيقه.
أما في القتل والقطع، فإقامته إلى الإمام.
وغير الرقيق، لا يقيم عليه الحد إلا الإمام، سواء في الجلد أو في غيره.
وهذا هو مذهب جهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي وأحمد.
الحديث الرابع:
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّهُ قَالَ: أتَى رَجل مِن المسلِمِينَ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في المسجدِ، فَنَاداهُ: فَقَالَ يا رسول الله، إنِّي زَنَيْتُ. فَأعرضَ عَنْهُ. فتنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يا رسول اللَه إنِّي زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ. حَتى ثنى ذلِكَ عَلَيهِ أربَعَ مَرَّات.
فلما شَهدَ عَلى نفْسِهِ أربَع شهَادَاتٍ، دَعَاهُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أبِك جُنُون»؟ قالَ: لا. قَالَ: «فَهَل أحصنت؟» قال: نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا به فارجموه».
الحديث الخامس:
قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى.
فلما أذلقَتْه الحجارة هرب، فأدركناه بالحرَّة فرجمناه.
الرَّجل هو، ماعز بن مالك. وروى قصته، جابر ابن سمرة وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي.
المعنى الإجمالي:
أتى ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه واعترف على نفسه بالزنا.
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لعله يرجع فيتوب فيما بينه وبين الله.
ولكن قد جاء غاضبا على نفسه، جازما محلى تطهيرها بالحد، فقصده من تلقاء وجهه مرة أخرى، فاعترف بالزنا أيضا.
فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، حتى شهد على نفسه بالزنا أربع مرات.
حينئذ استثبت النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله، فسأله: هل به من جنون؟ قال: لا، وسأل أهله عن عقله، فأثنوا عليه خيرا.
ثم سأله: هل هو محصن أم بكر لا يجب عليه الرجم؟ فأخبره أنه محصن.
وسأله: لعله لم يأت ما يوجب الحد، من لمس أو تقبيل. فصرح بحقيقة الزنا.
فلما استثبت صلى الله عليه وسلم من كل ذلك، وتحقق من وجوب إقامة الحد، أمر أصحابه أن يذهبوا به فيرجموه.
فخرجوا به إلى بقيع الغرقد-وهو مصلى الجنائز- فرجموه.
فلما أحس بحر الحجارة، طلبت النفس البشرية النجاة، ورغبت في الفرار من الموت فهرب.
فأدركوه بالحرة، فأجهزوا عليه حتى مات. رحمه الله، ورضي عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الزنا يثبت بالإقرار كما يثبت بالشهادة، ويأتي: هل يكفي الإقرار مرة، أم لابد من الإقرار أربع مرات كما في هذا الحديث؟.
2- أن المجنون لا يعتبر إقراره، ولا يثبت عليه الحد، لأن اشرط الحد التكليف.
3- أنه يجب على القاضي والمفتي، فالتثبت في الأحكام، والسؤال بالتفضيل عما يجب الاستفسار عنه، مما يغير الحكم في المسألة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المقر- هنا- عن عمله، حتى تبين له أنه فعل حقيقة الزنا.
وسأل أهله عن عقله، وأعرض عنه حتى كرر الإقرار، وستثبت منه. قال في فتح الباري: فقد بالغ سلى الله عليه وسلم في الاستثبات غاية المبالغة، وهذا وقع بعد إقراره أربع مرات فهو يؤكد اشتراط العد، لأن هذا الاستثبات العجيب وقع بعده.
4- أن حد المحصن الزاني رجمه بالحجارة حتى يموت، ولا يحفر له عند الرجم.
5- أنه لا يشرط في إقامة الحد، حضور الإمام أو نائبه.
والأولى حضور أحدهما ليؤمن الحيف والتلاعب بحدود الله تعالى.
6- جواز إقامة الحدود في مصلى الجنائز.
وكانوا في الأول، يجعلون للصلاة على الجنائز مصلّى خاصا.
7- أن الحد كفارة للمعصية التي أقيم الحد لها، وهم إجماع.
وقد جاء صريحا في قوله عليه الصلاة والسلام: «من فعل شيئا من ذلك، فعوقب في الدنيا، فهو كفارته».
8- وأن إثم المعاصي يسقط بالتوبة النصوح، وهو إجماع المسلمين أيضاً.
9- إعراض الإمام والحاكم عن المقر على نفسه بالزنا، لعله فعل ما لا يوجب الحد، فظنه موجبا، والحدود تدرأ بالشبهات.
10- هذه المنقبة العظيمة لماعز، رضي الله عنه، إذ جاء بنفسه، غضبا لله تعالى، وتطهيرا لها مع وجود الإعراض عنه، وتلقينه ما يسقط عنه الحد.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل يشترط تكرار الإقرار بالزنا أربع مرات، أولا؟.
ذهب الإمام أحمد، وجمهور العلماء، ومنهم الحكم، وابن أبي ليلى، والحنفية: إلى أنه لابد من الإقرار أربع مرات، مستدلين بهذا الحديث الذي معنا. فإنه لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم على (ماعز) الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربع مرات. وقياسا على الشهادة بالزنا، فلا يقبل إلا أربعة شهود.
ولا يشترط أن تكون الإقرارات في مجالس، خلافا للحنفية.
وذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: إلى أنه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد لحديث واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر إقرارات أربعة.
ورجم صلى الله عليه وسلم الجهنية، وإنما اعترفت مرة واحدة.
وأجابوا عن حديث ماعز، بأن الروايات في عدد الإقرارات مضطربة.
فجاء أربع مرات، وجاء مرتين، أو ثلاثا.
وأما القياس فلا يستقيم، لأن الإقرار في المال لابد فيه من عدلين، ولو أقر على نفسه مرة واحدة كفت إجماعا. والله أعلم.
الحديث السادس:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له: أنَّ امرأة منهم ورجلاً زنيا.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم»
فقالوا: نفضحهم ويجلدون.
قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها.
فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها.
فقال له عبد الله بن سلام: (ارفع يدك) فرفع يده فإذا فيها آية الرجم.
فقال: صدق يا محمد.
فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرُجِما.
قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يَقِيهَا الحجارة.
قال رضي الله عنه: الذي وضع يده على آية الرجم هو عبد اله بن صوريا.
الغريب:
عبد الله بن سلام: بتخفيف اللام، ابن الحارث الإسرائيلي، عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد له بالجنة، وهو من علماء بني إسرائيل في التوراة والأحكام.
يجنأ على المرأة: بفتح الياء التحتية وسكون الجيم، بعدها نون مفتوحة، بعدها همزة، أي يميل عليها وينكب.
قال ابن فارس: هو العطف على الشيء والحنو عليه.
صوريا: بضم الصاد، بعدها واو مخففة، ثم راء مكسورة، ثم ياء فألف.
المعنى الإجمالي:
زنا يهودي بيهودية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان اليهود يعلمون أن نبينا صلى الله عليه وسلم نبي حقا، ويعلمون أن شريعته جاءت باليسر والسماح، وفك الآصار والأغلال.
فجاءوا إليه بهذين اليهوديين الزانيين، ليحكم فيهما، لعل عنده حكما أخف مما عندهم في التوراة، فيكون لهم معذرة عند الله في عدم إقامة ما في التوراة من الحد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بحكم الزاني المحصن في التوراة، إما عن طريق الوحي، أو من أحد علماء اليهود الذين أسلموا.
فسألهم صلى الله عليه وسلم عن شأن الرجم في التوراة، متحدِّياَ ومبينا لهم أن القرآن والتوراة متفقان على هذا الحكم، فحاولوا التبديل والتغير على طريقتهم، فقالوا: نفضح الزناة ونجلدهم.
وكان عبد الله بن سلام-الذي عنده علم الكتاب- حاضرا فقال: كذبتم. فيها آية الرجم.
فجاءوا بالتوراة، فنشروها ليبحثوا عن آية الرجم فوضع عبد الله بن صوريا، يده على تلك الآية، وقرأ ما قبلها وما بعدها.
فقال عبد اللّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فوجدوا آية الرجم كما هي في الشريعة المحمدية.
فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عملا بقوله تعالى: {و أنِ احكم بَينهُمْ بما أنزل الله} فكان من شدة شفقة الرجل على المرأة، أنه ذكرها في تلك الحال الشديدة، فأخذ يقيها الحجارة بنفسه.
ما يستفاد من الحديث:
1- وجوب حد الذمي إذا زنى، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه.
2- أن الإحصان ليس من شرطه الإسلام. وهو مذهب الشافعي وأحمد.
فإذا وطئ الكافر في نكاح صحيح في شرعه، فهو محصن، تجرى عليه أحكام المسلمين المحصنين، إذا ترافعوا إلينا.
3- أن شريعتنا حاكمة على غيرها من الشرائع، وناسخة لها.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن حكم التوراة في الرجم، ليقيم عليهم الحجة من كتابهم الذي أنكروا أن يكون فيه رجم المحصن، وليبيِّن لهم أن كتب الله متفقة على هذا الحكم الخالد، الذي فيه ردع المفسدين.
4- أن حدَّ المحصن، إذا زنا، الرجم بالحجارة حتى يموت.
5- أن اليهود أهل تغيير وتبديل لكتاب اللّه الذي أنزله عليهم، تبعاً لأهوائهم وأغراضهم ومادِّيَّتِهمْ.
6- أن الكفار مخاطبون بالأحكام الفرعية، ومعاقبون عليها.
الحديث السابع:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رجلا-أو قال: امرءا- اطَّلع عليك بغير إذنك، فحذفته بحصاةٍ ففقأت عينه، ما كان عليك جناح».
الغريب:
حذفته: بالحاء والخاء وخطأ القرطبي رواية الحاء وجزم النووي أنه بالخاء المعجمة، ومعناها: رميته.
فقأت عينه: أفسدتها.
جناح: إثم.
المعنى الإجمالي:
للإنسان حرمة عظيمة ومقام كبير، وقد حظر الله تعالى ماله وعرضه ودمه.
ولكنه إذا اعتدى على غيره، زالت حرمته، وصَغُر مقامه، إذ أهان نفسه وقلل خطره.
فإذا اطلع على أحد بغير إذنه من وراء بابه أو من فوق جداره أو غيِر ذلك ففقأ عينه، فليس على هذا الفاقئ إثم ولا قصاص، لأنه أسقط حرمته، وأرخص عضوه، بجنايتها بالاطلاع على بيوت الناس وعوراتهم.
فهذا من باب القصاص، لا من باب المدافعة، فتكون بالأسهل فالأسهل.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم الاطلاع على أحوال الناس في منازلهم، والنظر إليهم والاستماع إِلى كلامهم.
2- سقوط حرمة من فعل ذلك، وإهدار العضو الذي يطلع به على أحوالهم.
3- أن لصاحب البيت أن يفقأ عينه وليس عليه إثم ولا قصاص.
4- ظاهر الحديث أن صاحب الدار لا يحتاج إلى إنذاره، ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري في عدة أبواب من صحيحه أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ صلى الله عليه وسلم مشقصا وجاء يختل الناظر بالمشقص (فهذا من أبواب القصاص)، لأن باب مدافعة الصائل هي التي تكون بالأسهل ثم الأصعب.